ورقة حول فن الملحون بمدينة آزمور

لقد كان مجتمع القرن التاسع عشر حاسما في إبراز الشخصية الإبداعية لشعراء الملحون بمدينة آزمور؛ حيث بوأهم للعب أدوار طلائعية وشمت تاريخ فن الملحون بالمغرب.فرغم قلة عدد شعراء المدينة والذي لايتجاوز 10 شعراء ممن وصلتنا إبداعاتهم نخص بالذكر منهم الشاعر أحمد بنرقية وأخوه موسى بنرقية والشاعر المختار بن المطحن والشاعر محمد بنمسعود في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وكذا الشاعر المكي واجو البصير والشاعر اسماعيل الشوفاني والشاعر إدريس ولد لبصير في النصف الأول من القرن العشرين، إلا أن ما تركه هؤلاء وغيرهم من درر فنية و أخبار وقصص، يدل على أن قصيدة شعر الملحون استطاعت أن ترصد معالم الحضارة ومقومات وملامح الشخصية الثقافية للمجتمع الآزموري، عبر سراريب ومنظومات وقصائد شعرية متميزة ومتفردة، موزعة على أغراض متنوعة لامست اليومي والمعيش لحياة إبن الحاضرة في فرحه وحزنه، في خوفه وطمأنينته، في غضبه وسكينته، في جنونه و وساوسه وفي صفاء ذهنه وفكره.

ولعل الحاجة إلى مشاركة هذا التاريخ التراثي الحضاري المشرق لهذه المدينة، هي التي تفرض بكثير من الأمل؛ خلق فسحة لإسترجاع واستثمار هذه الذاكرة، والبحث لها عن موقع قدم ضمن فسيفساء جغرافية الاستثمار الثقافي التراثي بالمغرب.
إنها الأطر النظرية والدواعي الموضوعية التي تؤسس لمهرجان فن الملحون لمدينة آزمور، والذي يمكن اعتباره رهانا مهما لإستتباع مبادرات ثقافية أخرى تجعل من مدينة آزمور مجالا جدابا ومنارة وقبلة لكل المسكونين والمهووسين بالتراث والثقافة المغربية.

إن الخصوصية المغربية التي وسمت ميلاد ونشأة وازدهار فن الملحون المغربي؛ سمحت له بخلق ونسج تعالقات غنية ومتنوعة مع مجموعة من الفنون والأنماط الأدبية والتقاليد الحسية والشفوية؛ كالزجل والتواشيح ونغمات العيطة بمفهومها الوسع، ونوبات وميازين طرب الآلة، والحركات والسكنات المتكررة للصناع التقليديين الصادرة عن أصواتهم المبحوحة ومعداتهم العتيقة المتقادمة؛ والتي شكلت أوزانا طبيعية نظم وأنشد عليها رجالات الملحون الذين ينتمي أغلبهم لهذه الفئة من المجتمع، والسرد والإنشاد، والبساط والحلقة والمسرح، وغيره وغيره …..

هذا ما يؤهله ليكون فن وأدب المغاربة والمجتمع بامتياز.
ومن المؤكد أن هذه التعالقات هي التي تجعل منه فنا متجدرا صامدا ضد كل المتغيرات، وهي التي تجعلنا اليوم نجدد الدم في عروقها عن طريق تناولها بالبحث وخلق الفرجة. لذلك أصبح من الضروري أن يمتد مهرجان فن الملحون لمدينة آزمور عبر دورات موضوعاتية ترصد حدود هذا الفن مع باقي الفنون والأنماط الأدبية والحسية والشفوية سواء على المستوى الوطني أو الإقليمي أو الإنساني لكون فن الملحون إستطاع بالحس المرهف لشعرائه أن يلامس كل القضايا الإنسانية بعمق وبساطة متناهية.

إن « منشد الملحون » هو الذي كان ولازال يبعث الحياة في قصائد شعر الملحون بكل ما يستلزمه ذلك من نقل لكل الأحاسيس والمشاعر وتمثل للصور و الرموز والمعاني، وطرب ورقص أحيانا؛ وغضب وسخط أحيانا أخرى؛ ورزانة وحكمة وتبصر وتدلل وتوسل ومدح وغير ذلك. فكم قصائد ماتت ولم تراوح مكانها في الخزانات؛ بسبب إهمالها من طرف شيخ لكريحة، وكم قصائد قبعت لقرون في طي النسيان، وسرت ودبت فيها الحياة بانشادها وذيوعها، ولعل قصيدة « حرازعوشية »و »جد الحسنين »و »فروح » وغيرها كثير من قصائد شعراء مدينة آزمور التي خرجت إلى الوجود على يد أبناء هذه المدينة من المنشدين بفضل جمعية أحمد بنرقية لفن الملحون بآزمور؛ لخير دليل على الدور الأساسي ل »شيخ الكريحة ».

 » الملحون فراجتو فكلامو » عبارة تتردد كثيرا عند أهل الملحون. وهي دليل على أن الفرجة والمتعة الحقيقية تنبعث وتتحقق مع الإستماع بتمعن للسرد والإنشاد و »الكريحة ».

عبد الإله جنان